فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذكر الزجاج وجهًا آخر فقال: أعلم أن الله لا يفوته شيء، وإن يوما عنده وألف سنة في قدرته واحد، ولا فرق بين وقوع ما يستعجلون به من العذاب وتأخره في القدرة، إلا أن الله تفضل بالإمهال انتهى.
ومحل جملة: {ولن يخلف الله وعده} النصب على الحال، أي والحال أنه لا يخلف وعده أبدًا، وقد سبق الوعد فلابد من مجيئه حتمًا، أو هي اعتراضية مبينة لما قبلها، وعلى الأوّل تكون جملة: {وَإِنَّ يَوما عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَا تَعُدُّونَ} مستأنفة، وعلى الثاني تكون معطوفة على الجملة التي قبلها مسوقة لبيان حالهم في الاستعجال، وخطابهم في ذلك ببيان كمال حلمه، لكون المدة القصيرة عنده كالمدة الطويلة عندهم كما في قوله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 6، 7].
قال الفرّاء: هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة أي: يوم من أيام عذابهم في الآخرة كألف سنة.
وقيل: المعنى: وإن يوما من الخوف والشدّة في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا فيها خوف وشدة، وكذلك يوم النعيم قياسًا.
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: {مما يعدون} بالتحتية، واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب، واختارها أبو حاتم.
{وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظالمة ثُمَّ أَخَذْتُهَا وإلي المصير}: هذا إعلام منه سبحانه أنه أخذ قوما بعد الإملاء والتأخير.
قيل: وتكرير هذا مع ذكره قبله للتأكيد، وليس بتكرار في الحقيقة؛ لأن الأوّل سيق لبيان الإهلاك مناسبًا لقوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} ولهذا عطف بالفاء بدلًا عن ذلك؛ والثاني: سيق لبيان الإملاء مناسبًا لقوله: {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوما عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} فكأنه قيل: وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أمهلتهم حينًا، ثم أخذتهم بالعذاب، ومرجع الكل إلى حكمي.
فجملة: {وإلي المصير} تذييل لتقرير ما قبلها.
ثم أمره الله سبحانه أن يخبر الناس بأنه نذير لهم بين يدي الساعة مبين لهم ما نزل إليهم، فمن آمن وعمل صالحًا فاز بالمغفرة والرزق الكريم وهو الجنة، ومن كان على خلاف ذلك فهو في النار، وهم {الذين سعوا في آيات الله معاجزين} يقال: عاجزه: سابقه، لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر، فإذا سبقه قيل: أعجزه وعجزه، قاله الأخفش.
وقيل: معنى {معاجزين} ظانين ومقدّرين أن يعجزوا الله سبحانه ويفوتوه فلا يعذبهم، قاله الزجاج؛ وقيل: معاندين، قاله الفرّاء.
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة في قوله: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} قال: خربة ليس فيها أحد {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ}: عطلها أهلها وتركوها {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} قال: شيدوه وحصنوه فهلكوا وتركوه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} قال: التي تركت لا أهل لها.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} قال: هو المجصص.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد عن عطاء نحوه أيضًا.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَإِنَّ يَوما عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَا تَعُدُّونَ} قال: من الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض.
وأخرج ابن المنذر عن عكرمة، قال في الآية: هو يوم القيامة.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة، فقد مضى منها ستة آلاف.
وأخرج ابن عدّي والديلمي عن أنس مرفوعًا نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس {معاجزين} قال: مراغمين.
وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: مشاقين. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49)}.
أخرج ابن أبي حاتم، عن محمد بن كعب القرظي قال: إذا سمعت الله يقول: {رزق كريم} فهي الجنة.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ {معاجزين} في كل القران؛ يعني بألف، وقال: مشاقين.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {معاجزين} قال مراغمين.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن الزبير أنه كان يقرأ [والذين سعوا في آياتنا معجزين] يعني مثبطين.
وأخرج بن أبي حاتم، عن عروة بن الزبير: أنه كان يعجب من الذين يقرأون هذه الآية: {والذين سعوا في آياتنا معاجزين} قال: ليس معاجزين من كلام العرب، إنما هي {معجزين} يعني مثبطين.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد رضي الله عنه {في آياتنا معاجزين} قال: مبطئين، يبطئون الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن قتادة رضي الله عنه {والذين سعوا في آياتنا معاجزين} قال: كذبوا بآيات الله وظنوا أنهم يعجزون الله، ولن يعجزوه. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)}.
قوله: {مُعَاجِزِينَ}: قرأ أبو عمرو وابن كثير بالتشديد في الجيم هنا، وفي حرفَيْ سبأ، والباقون {مُعاجزين} في الأماكن الثلاثة. والجحدري كقراءة ابن كثير وأبي عمرو في جميع القران وابن الزبير: {مُعْجِزين} بسكون العين.
فأمَا الأولى ففيها وجهان، أحدُهما: قال الفارسي: معناه: ناسِبين أصحابَ النبيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العَجْز نحو: فَسَّقْتُه أي نَسَبْتَه إلى الفسق. والثاني: أنها للتكثير. ومعناها: مُثَبِّطِيْنَ الناسَ عن الإِيمان. وأمَا الثانيةُ فمعناها: ظانِّين أنهم يَعْجِزوننا. وقيل: معاندِين. وقال الزمخشري: عاجَزَه: سابقَه؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما في طَلَب إعجازِ الآخر عن اللِّحاق به. فإذا سبقه قيل: أعجزه وعَجَزه. فالمعنى: سابقين أو مُسابقين في زعمهم وتقديرِهم طامِعين أنَّ كيدَهم للإِسلامِ يَتِمُّ لهم. والمعنى: سَعَوا في معناها بالفسادِ. وقال أبو البقاء: إنَّ معاجزين في معنى المُشَدَّدِ، مثلَ عاهَدَ وعَهَّد. وقيل: عاجَزَ سابَقَ، وعَجَز سَبَق. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الحج: 50]، وبعد هذه الآية قوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الحج: 56]، يسأل عن وجه الاختلاف فيما ذكر من الجزاء مع اتفاق وصفهم بالإيمان وعمل الصالحات؟
والجواب عنه أن الآية الأولى إخبار لهم عند دعائهم قبل: أن {آمنوا}، ألا ترى أن قبله أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بما يقول لهم في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الحج: 49]، ثم أخبرهم بمآلهم إن آمنوا من غفران ما تقدم لهم من أعمال المخالفات والمجترخحات، والرزق الكريم، ولما ذكر في الآية الأولى حالهم في الدار الأخرى بعد انصرام الدنيا، وحصول اتصافهم بالإيمان وأعمال الطاعات، أخبروا فيها بالحاصل من المغفرة، وبين لهم الرزق الكريم وأنه نعيم الجنة والخلود الأبدي فيها، فالآية الأولى تضمنت وعدهم إن آمنوا، وذلك عند دعائهم إلى الإيمان، ويزيدك في ذلك بيانًا نداؤهم في دعائهم إلى الاستجابة بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الحج: 49]، ولو كانوا قد حصل لهم الإيمان لوسموا بذلك في خطابهم، فكأن يقال: يا أيها الذين آمنوا، فإنما دعوا بما به يدعى من لم يحصل له الإيمان ولا اتصف به، وبشروا إن آمنوا، ثم أخبروا ثانيًّا بالحاصل لهم بيانًا لمضمن البشارة الأولى وإخبارًا لهم بغاية الجزاء، فالآية الثانية بيان وتفصيل لما أجمل في الأولى، مرتب عليه وآت بعده بما يجب فيما يأتي فيه الإجمال والتفصيل، فكأنهم قالوا: ما الرزق الكريم؟ فقيل لهم: جنات النعيم، فورد كل من الآيتين على ما يجب ويناسب، ولا يلائم ما ورد من الجزاء في الآية الثانية- على تمهيد- ما وقع دعاء أو خطابًا في الأولى، ولا ما بني على الآية الأولى أن وقع إخبارًا في الثانية، بل ورد كل على ما يجب، والله أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49)}.
أشابِهُكُم في الصورة ولَكِني اُبَاينُكم من حيث السريرة، وأنا لِحُسْنِكم بشير، ولِمُسِيئِكُم نذير، وقد أَيَّدت بإقامةِ البراهينِ ما جِئتكم به من وجوهِ الأمر بالطاعة والإحسان.
{فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)}.
الناس- في المغفرة- على أقسام: فمنهم من يستر عليه زَلَّتَه، ومنهم من يستر عليه أعماله الصالحة صيانةً له عن الملاحظة، ومنهم من يستر حاله لئلا تُصيبَه مِنَ الشهرةِ فتنةٌ، وفي معناه قالوا:
لا تُنْكِرَنْ جُحْدِي هَوَاكَ فإنما ** ذاك الجحودُ عليكَ سِتْرَ مُسْبَلُ

ومنهم مَنْ يستره بين أوليائه، لذلك وَرَدَ في الكتب: أوليائي في قبائي، لا يشهد أوليائي غيري.
{والرزق الكريم} ما يكون من وجه الحلال. ويقال ما يكون من حيث لا يَحْتَسِب العبدُ.
ويقال هو الذي يبدو- من غير ارتقابٍ- على رِفْقٍ في وقت الحاجة إليه.
ويقال هو ما يَحْمِلُ المرزوقَ على صَرْفهِ في وَجْهِ القربة. ويقال ما فيه البركة.
ويقال الرزق الكريم الذي يُنال من غير تعب، ولا يتقلد مِنَّةً مخلوق.
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)}.
في الحال في معَجَّلهِ الوحشهُ وانسدادُ أبوابِ الرشدِ، وتنغصُ العَيْش، والابتلاءُ بمن لا يعطف عليه ممن لا يخافون الله. وفي الآخرة ما سيلقون من أليم العقوبة على حسب الإجرام. اهـ.

.تفسير الآيات (52- 55):

قوله تعالى: {وما أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أمنيته فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما لاح من ذلك أن الشيطان ألقى للكفار شبهًا، يعاجزون بها بجدالهم في دين الله الذي أمر رسوله محمدًا- صلى الله عليه وسلم- بإظهاره، وتقرير وإشهاره، عطف عليه تسلية له- صلى الله عليه وسلم- قوله: {وما أرسلنا} أي بعظمتنا {من قبلك} ثم أكد الاستغراق بقوله: {من رسول} أي من ملك أو بشر بشريعة جديدة يدعو إليها {ولا نبي} سواء كان رسولًا أو لا، مقرر بالحفظ لشريعة سابقة- كذا قال البيضاوي وغيره في الرسول وهو منقوص بأنبياء بني أسرائيل الذين بين موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، فإن الله تعالى سماهم رسلًا في غير آية منها {ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل} [البقرة: 87] فالصواب أن يقال: النبي إنسان أوحي إليه بشرع جديد أو مقرر، فإن أمر بالتبليغ فرسول أيضًا، والتقييد بشرع لإخراج مريم وغيرها من الأولياء {إلا إذا تمنى} أي تلا على الناس ما أمره الله به أو حدثهم به واشتهى في نفسه أن يقبلوه حرصًا منه على إيمانهم شفقة عليهم {ألقى الشيطان في أمنيته} أي ما تلاه أو حدث به واشتهى أن يقبل، من الشبه والتخيلات ما يتلقفه منه أولياءه فيجادلون به أهل الطاعة ليضلوهم {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم} [الأنعام: 121] {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا} [الأنعام: 112] كما يفعل هؤلاء فيما يغيرون به في وجه الشريعة أصولًا وفروعًا من قولهم: إن القرآن شعر وسحر وكهانة، وقولهم {لو شاء الله ما أشركنا} [الأنعام: 148] وقولهم {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18] وقولهم: إن ما قلته الله بالموت حتف أنفه أولى بالأكل مما ذبح، وقولهم: نحن أهل الله وسكان حرمه، لا نخرج من الحرم فنقف في الحج بالمعشر الحرام ويقف الناس بعرفة، ونحن نطوف قي ثيابنا وكذا من ولدناه، وأما غيرنا فلا يطوف إلا عريانًا ذكرًا ان أو أنثى إلا أن يعطيه أحد منا ما يلبسه، ونحو ذلك مما يريدون أن يطفئوا به نور الله، وكذا تأويلات الباطنية والاتحادية وأنظارهم التي ألحدوا فيها، يضل بها من يشاء الله ثم يمحوها من أراد من عباده وما أراد من أمره {فينسخ} أي فيتسبب عن إلقائه أنه ينسخ {الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلمًا {ما يلقي الشيطان} فيبطله بإيضاح أمره ومج القلوب له.
ولما كان إبطاله سبحانه للشبه إبطالًا محكمًا، لا يتطرق إليه لعلو رتبة بيانه- شبهة أصلًا، عبر بأداة التراخي فقال: {ثم يحكم الله} أي الملك الذي لا كفوء له {آياته} أي يجعلها جلية فيما أريد منها، وأدل دليل على أن هذا هو المراد مع الافتتاح بالمعاجزة في الآيات- الختام بقوله عطفًا على ما تقديره: فالله على ما يشاء قدير: {والله} أي الذي له الأمر كله {عليم} أي بنفي الشبه {حكيم} بإيراد الكلام على وجه لا تؤثر فيه عند من له أدنى بصيرة، وكذا ما مضى في السورة ويأتي من ذكر الجدال.
ولما ذكر سبحانه ما حكم به من تمكين الشيطان من هذا الإلقاء، ذكر العلة في ذلك فقال: {ليجعل ما يلقي الشيطان} أي في المتلو أو المحدث به من تلك الشبه في قلوب أوليائه {فتنة} أي اختبارًا وامتحانًا {للذين في قلوبهم مرض} لسفولها عن حد الاعتدال من اللين حتى صارت مائيته تقبل كل صورة ولا يثبت فيها صورة، وهم أهل النفاق المتلقفون للشبه الملقون لها {والقاسية قلوبهم} عن فهم الآيات، وهم من علت قلوبهم عن ذلك الجدال أن صارت حجرية، وهم المصارحون بالعداوة، فهم في ريب من أمرهم وجدال للمؤمنين، قد انتقشت فيها الشبه، فصارت أبعد شيء عن الزوال.
ولما كان التقدير: فإنهم حزب الشيطان، وأعداء الرحمن، عطف عليه قوله.
وإنهم هكذا الأصل، ولَكِنه أظهر تنبيهًا على وصفهم فقال: {وإن الظالمين} أي الواضعين لأقوالهم وأفعالهم في غير مواضعها كفعل من هو في الظلام {لفي شقاق} أي خلاف بكونهم في شق غير شق حزب الله بمعاجزتهم في الآيات بتلك الشبه التي تلقوها من الشيطان، وجادلوا بها أولياء الرحمن {بعيد} عن الصواب {ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون} [الأنعام: 113] {وليعلم الذين أوتوا العلم} بإتقان حججه، وإحكام براهينه، وضعف شبه المعاجزين، وبني فعله للمجهول تعظيمًا لثمرته في حد ذاته لا بالنسبة إلى معط معين {أنه} أي الشيء الذي تلوته أو حدثت به {الحق} أي الثابت الذي لا يمكن زواله {من ربك} أي المحسن إليك بتعليمك إياه، فإن الحق كلما جودل أهله ظهرت حججه، وأسفرت وجوهه، ووضحت براهينه، وغمرت لججه، كما قال تعالى: {يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا} [البقرة: 26] {فيؤمنوا به} لما ظهر لهم من صحته بما ظهر من ضعف تلك الشبه {فتخبت} أي تطمئن وتخضع {له قلوبهم} وتسكن به قلوبهم، فإن الله جعل فيها السكينة فجعلها زجاجية صلبة صافية رقيقة بين المائية والحجرية، نافعة بفهم العلم وحفظه والهداية به لمن يقبل عنهم من الضالين كما ينفع الخبث بقبول طائفة منه لطائفة من الماء، وإنبات ما يقدره الله من الكلاء وغيره وحفظ طائفة أخرى لطائفة أخرى منه لشرب الحيوان {وإن الله} بجلاله وعظمته لهاديهم، ولَكِنه أظهر تنبيهًا على سبب العلم فقال: {لهاد الذين آمنوا} في جميع ما يلقيه أولياء الشيطان {إلى صراط مستقيم} يصلون به إلى معرفة بطلانه، فيوصلهم ذلك إلى سعادة الدارين {ولا يزال الذين كفروا} أي وجد منهم الكفر وطبعوا عليه {في مرية} أي شك يطلبون السكون إليه {منه} أي من أجل إلقاء الشيطان وما ألقاه، أو مبتدىء منه {حتى تأتيهم الساعة} أي الموت أو القيامة {بغتة} أي فجأة بموتهم حتف الأنف {أو يأتيهم عذاب يوم عقيم} يقتل فيه جميع أبنائهم منهم ولا يكون لهم فيه شيء مما يترجونه من نصر أو غيره كما سعوا بجدلهم وإلقاء الضلالات في إعقام الآيات، فإذا انكشف لهم الغطاء بالساعة أو العذاب الموصل إلى حد الغرغرة آمنوا دأب البهائم التي لا ترى إلا الجزئيات، فلم ينفعهم ذلك لفوات شرطه، وقد زالت بحمد الله عن هذه الآية- بما قررته الشكوك، وانفضحت مخيلات الشبه، وانقمعت مضلات الفتن، من قصة الغرانيق وما شاكلها مما يتعالى عنه ذلك الجناب الرفيع، والحمى العظيم المنيع، ولم يصح شيء من ذلك كما صرح به الحافظ عماد الدين ابن كثير وغيره كيف وقد منع الشيطان من مثاله- صلى الله عليه وسلم- في المنام، كما قال- صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة- رضي الله عنهم- «من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي» وقد تولى الله سبحانه حفظ الذكر الحكيم بحراسة السماوات وغيرها {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} {إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدًا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم} [الجن: 27]. اهـ.